[color=red][size=24]فإن الله تعالى قد نهى الصائم عن الأكل و الشرب و الوقاع في نهار رمضان، و جعل ذلك مفسداً للصوم، فيتأكد على المسلم أيضاً أن يترك المحرمات في نهار صومه و في ليالي شهره، و يجب عليه أن يتأثر بعد الشهر بما أفاده هذا الصوم، و ذلك لأن الله الذي حرّم عليك في نهار رمضان أن تأكل و أن تشرب؛ مع كون الأكل و الشرب من الشهوات النفسية التي تتناولها النفس بطبعها و التي تعيش عليها و تموت بفقدها، فإن الله تعالى حرم عليك محرمات أخرى هي أشد إثماً و أشد ضرراً و ليست بضرورية كضرورة الطعام و الشراب، و قد ورد في ذلك كثير من الآثار نذكر بعضها:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، و لا يصخب و لا يفسق، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني امرؤٌ صائم"(أخرجه البخاري 1904 في الصوم. باب: "هل يقول إني صائم إذا شتم؟" و مسلم برقم 1151 في الصيام، باب: "فضل الصيام").
و الصخب هو: رفع الصوت بالكلام السيئ. و الرفث: هو الكلام في العورات، و الكلام فيما يتعلق بالنساء و نحو ذلك. أما الفسوق: فهو الكلام السيئ الذي فيه عصيان و فيه استهزاء و سخرية بشيء من الدين أو من الشريعة، و نحو ذلك.
فالصوم ينهي صاحبه عن هذه الأشياء. و كأنه يقول إن صيامي ينهاني عن هذا الصخب -فإن الصوم ينهى عن المأثم، ينهى عن الحرام- فيقولك كيف أترك الطعام و الشراب -الذي هو حلال- و آتي بما هو محرم في كل الأوقات؟
2- و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "من لم يدع قول الزور و العمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه"(أخرجه البخاري برقم 1903 في الصوم، باب: "من لم يدع قول الزور").
فالله تعالى ما كلفك أن تترك الطعام و الشراب إلا لتستفيد من هذا الترك، فتترك الرفث، و تترك الفسوق، و تترك قول الزور، و تترك المعاصي المتعلقة بالنساء و بالجوارح، فإن لم تفعل ذلك و لم تستفد من صيامك فالله تعالى يرده عليك و لا يجزيك على عملك.
3- و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "رب صائم حظه من صيامه الجوع و العطش، و رب قائم حظه من قيامه السهر"(أخرجه ابن ماجة برقم 1690، و أحمد في المسند 2/373، 441).
4- و عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم: "أن امرأتين صامتا فكادتا أن تموتا من العطش، فذكرتا للنبي صلى الله عليه و سلم، فأعرض عنهما، ثم ذُكرتا له، فأعرض عنهما، ثم دعاهما فأمرهما أن يتقيئا فتقيّئتا ملء قدح من قيح و دم و لحم عبيط فقال النبي صلى الله عليه و سلم: "إن هاتين صامتا عما أحل الله. و أفطرتا على ما حرم الله عز و جل عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس"(أخرجه أحمد في المسند 5/431).
فانظر إلى قوله: "صامتا عما أحل الله، و أفطرتا على ما حرم الله". فجعل هذا فطراً، كون الإنسان يأكل أعراض الناس، و كونه يتكلم في فلان و فلان بغير حق، فهذا لم يستفد من صومه، صام عن الحلال، و أفطر على الحرام -و العياذ بالله- فلم ينتفع بصومه.
و لا شك أن الصوم الذي هذه آثاره لا ينتفع به صاحبه و لا يفيده؛ فإن الصوم الصحيح يجادل عن صاحبه و يشهد له يوم القيامة و يشفع له عند الله(حديث: أن الصيام و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة.. سبق تخريجه).، فإن لم يحفظه لم يستفد منه و لم يؤجر عليه.
يقول بعضهم:
إذا لم يكن في السمع مني تصــاون و في بصري عضٌّ في منطقي صـمتُ
فحظي إذاً من صومي الجوع و الظمأ و إن قلتُ: إني صمتُ يومي فما صمتُ
فلا بد أن يكون على الصائم آثار الصيام، كما روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: "إذا صمت فليصم سمعك و بصرك و لسانك عن الغيبة و النميمة، و دع أذى الجار، و ليكن عليك سكينة و وقار، و لا تجعل يوم صومك و يوم فطرك سواء".
و بالجملة فالصوم الصحيح يدعو صاحبه إلى ترك المحرمات، فإن المعصية إذا سولت للإنسان نفسه أن يقترفها رجع إلى نفسه، و فكّر و قدر و نظر و اعتبر، و قال مخاطباً نفسه: كيف أقدم على معصية الله و أنا في قبضته و تحت سلطانه، و خيره عليَّ نازل، و أنا أتقرب إليه بهذه العبادة؟
و من الذين لم يستفيدوا من صيامهم: أولئك الذين يسهرون على تعاطي الدخان المحرم الذي هو ضار بكل حالاته و وجوهه، فلا شك أنهم لم يستفيدوا من صيامهم ذلك أن الصوم تبقى آثاره، و هؤلاء لا أثر للصيام عليهم.
فالصائم الذي امتنع عن شرب الدخان طوال نهاره، و كذلك عن شرب الخمر المحرمة -و العياذ بالله- و لكنه تناول ذلك في ليله، فهذا الفعل دليل على أنه لم يستفد من صومه، و إنما صومه عليه وبال.
فالصيام الصحيح هو الذي يزجر صاحبه عن المحرمات:
فإذا دعته نفسه إلى شرب خمر رد عليها و قال: كيف أترك الطعام في النهار، و أتناول الخمر في الليل؟ أليس الذي حرّم هذا هو الذي حرم ذاك؟ كيف أؤمن ببعض الكتاب و أكفر ببعض؟(و هذا شأن اليهود أنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب و يكفرون ببعض، قال تعالى: ((أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض))(البقرة:85).
و إذا نادته نفسه، و زينت له أن ينظر بعينيه إلى شيء من العورات؛ كأن ينظر إلى صور عارية في أفلام و نحوها، أو ينظر إلى النساء المتبرجات رجع إلى نفسه و قال: كيف أمتنع عن الحلال الذي حرمه الله -في النهار- كالأكل و الشرب، و آتي شيئاً محرماً تحريماً مؤبداً في آن واحد؟
و هكذا إذا دعته نفسه إلى أن يتناول شيئاً من المكاسب المحرمة كرشوة أو رباً أو خديعة في معاملة، أو غش، أو ما أشبه ذلك رجع إلى نفسه، و قال: لا يمكن أن أجمع بين فعل عبادة و فعل معصية. فإذا رجع إلى نفسه تاب من فعله و أناب.
فهذه أمثلة في أن الصائم صحيح الصيام يستفيد من صيامه في ترك المعاصي؛ سواءً كانت تلك المعاصي محرمة تحريماً مؤقتاً كالطعام و الشراب، أو تحريماً مؤبداً كالخمر و الميسر و القمار و الدخان و الرشوة و الغش و الربا و الزنا و الملاهي و نحوها، فإن هذه تحريمها أكيد.
فالمسلم يتفكر في أن الذي حرم هذا هو الذي حرم ذاك فيمتنع بصيامه عن كل ما حرم الله عز و جل.
هذه من آثار الصيام في زجر الصائمين عن المحرمات التي يقترفها الإنسان بسمعه و بصره و بيده و فرجه و ببطنه و بجميع بدنه و غير ذلك.
فإذا كان صومك كذلك فأنت من الذين يستفيدون من صيامهم، و من الذين يترتب على صيامهم الحسنات، و يترتب عليه المغفرة، فقد أكّد النبي صلى الله عليه و سلم أن مغفرة الذنوب تتحقق بالصوم إيماناً و احتساباً كما في الحديث المشهور: "من صام رمضان إيماناً و احتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.."(أخرجه البخاري برقم 38 في الإيمان، باب: "صوم رمضان احتساباً من الإيمان").، فشرط فيه أن يكون صومه إيماناً و احتساباً، و لا شك أن معنى الإيمان هو: التصديق بأنه عبادة لله، فرضه على العباد، و أما الاحتساب فهو: احتساب ثوابه عند الله، و ذلك يستدعي مراقبة ربه في كل الأحوال.
ذكر بعض العلماء: أن الصيام سر بين العبد و بين ربه، حتى قال بعضهم: إنَّه لا يطلع عليه أحد من البشر أو لا تكتبه الحفظة.
فيمكن للصائم أن ينفرد في زاوية من الزوايا أو في مكان خفي، و يتناول المفطرات بحيث لا يراه أحد، و لكن المؤمن الذي يصوم إيماناً و احتساباً و يعبد ربَّه و يعلم أن الله يراقبه، كما قال تعالى: ((الذي يراك حين تقوم * و تقلبك في الساجدين * إنه هو السميع العليم))(الشعراء:218-220). يعلم بأن ربه يراه حيث كان، فمثل هذا لا يتناول شيئاً من المفطرات و لو اختلى بها، و لو كان جائعاً فإنه يصبر على الجوع و لا يصبر على غضب ربه.
هذا معنى كون الصيام سراً خفياً لا يطلع عليه إلا الله، و هذا معنى كونه إيماناً، يعني ما حمله على صيامه إلا الإيمان؛ ترك شهواته إيماناً بالله، إيماناً بأنه هو الذي فرضه، و إيماناً بأنه هو الذي حرم عليه هذه الشهوات و هذه الأشياء.
فالصيام الصحيح هو الذي تظهر عليك آثاره، و تحفظه في كل حالاتك، و تتذكره في كل الأوقات و لا تخدشه بشيء من المنقصات.
فإذا فعلت ذلك، فإنَّ صومك يترتب عليه مغفرة الذنوب، كما قال صلى الله عليه و سلم: "غفر له ما تقدم من ذنبه"(سبق تخريجه)، فلا شك أن هذا العمل الذي هو الصيام لما كانت هذه آثاره كان محبباً للنفوس الزكية، النفوس السليمة، النفوس الصحيحة النقية، التي تسعد بهذا الصيام و تزكو و ترتقي.
و أما النفوس المتطرفة الغاوية فإنها تتثاقل هذا الصوم، و تتمنى انقطاعه، و انتهاء أيامه لذلك ترى الفرق الكبير بين المؤمن و غيره، المؤمن حقاً هو الذي يتمنى بقاء هذا الشهر، و أن تطول أيامه، كما رُوي في الحديث: "لو تعلم أمتي ما في رمضان لتمنت أن تكون السنة كلها رمضان"(أخرجه ابن خزيمة، برقم 1886 و ذكره ابن الجوزي في الموضوعات 2/188، 189، و فيه جرير بن أيوب البجلي).
فانظر و فرّق. هناك قوم من السلف الصالح، و من أولياء الله و أصفيائه سنتهم كلها رمضان حتى قال بعضهم:
و قد صمت عن لذات دهري كلها و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي
و]